إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 5 يناير 2024

مقالة نقدية حول النص المسرحى ( سيمفونية القهر ) للناقدة د . / وفاء كمالو


   سيمفونية القهر

     تأتي مسرحية سيمفونية القهر لتواجهنا بذلك الوجود الفني الفريد , الباحث عن معنى العصيان , وعن العدالة الهاربة ودوافع الأعماق , تدين القهر والتسلط والغياب , تحاكم الفقر الوحشي واندفاعات السقوط إلى الحضيض , تشتبك مع الوجوه والأقنعة , لترسم مسارات حالة إبداعية مدهشة , تثير الجدل والتساؤلات حول هؤلاء الذين امتلكوا شعلة الوهج , ليكشفوا أسرار وعلاقات الواقع والمجتمع وضرورات التغيير , بحثا عن الحرية واكتمال الذات . 

مؤلف هذه المسرحية هو الكاتب المثقف هشام بهاء الدين , صاحب الموهبة الخصبة والبصمات الفريدة والرؤى المغايرة , بعث تيارات الوهج في سيمفونية القهر , التي تحولت إلى قراءة حية في قلب المجتمع والسياسة والاقتصاد , وامتلك النص حضوره عبر المساحات الخلاقة من الإبداع والثراء والتنوع والجاذبية , جاءت رؤيته متعددة الأصوات والأبعاد , واستطاع أن ينزع كل الأقنعة ليسقط الزيف والعبث , وتصبح الشخصيات عارية -  - تواجه سقوطها المخيف , وتتحدى آثام الخطايا , لتشعلها بنيران القسوة والمجون والعذاب , فقد قبض هشام بهاء الدين على تلك الجمرات الفكرية والفنية المتدفقة , واندفعت الحالة الفنية إلى مسارها المحتوم , وفي هذا السياق جاءت ملامح البناء الدرامي متعددة المستويات , تمتلك الأطر والمرجعيات , وظلت الأحداث تنمو وتتطور , عبر حرارة التفاصيل التي تكشف بذاءة انتهاك شرف الإنسان , وتزييف جوهر الإرادة والحرية , ورغم وقائع السقوط الصادم للعمدة وشيخ الغفر وصول الشرطة , والخاطبة راجية و شنواني , إلا أن الفن الراقي لا يعرف أبدا شبهات الإسفاف والابتذال , حيث تأخذنا جماليات الطرح وسحر الكتابة , إلى الزاوية الحرجة , ليتفجر ذلك الجدل العقلي بين رؤى الضحايا وقسوة الجلادين , تلك الحالة التي فتحت الأبواب المغلقة على المتسلطين والمقهورين والساقطات والقوادين , ومنحت وجودهم دلالات ثرية , تؤكد أن الفقر يفتح نيران الجحيم , وأن السقوط لن يكون أبدا هو المسار لامتلاك الذات , فالحياة هي الحرية , والحرية هي المواجهة والتغيير والوعي والإدراك .

تدور أحداث هذا النص الحيوي الخلاب في إحدى قرى  صعيد مصر , جاء مسكونا بالوعي والحرارة والنقد والتساؤلات ,  المنظور الفني يكشف عن لغة حارة متوترة , وواقعية صاخبة كاشفة , وشاعرية عنيدة واثقة , تلك الملامح التي تؤكد أننا  أمام مؤلف كبير يمتلك الرؤية الواضحة , ووجهة النظر الثائرة , يقدم للواقع المسرحي المصري تجربة شاهقة , تشتبك بقوة مع إيقاعات زمننا الوحشي , المسكون `بالقوة الغاشمة والشرور الآثمة , لذلك كانت المواجهة صادمة , تحمل في أعماقها بكارة فنية مدهشة , لامست خطايا الواقع ومجون الحقيقة , وتحولت إلى عزف ناري على الأعصاب العارية , وفي هذا السياق ندخل بيت أبو راضي , الفلاح المصري المعذب بالقهر والفقر , تحاصره تساؤلات الوجود العارمة , يرى وجوده مرتبطا بالأرض , بالقراريط القليلة التي ورثها , يعشق زوجته خضرة وابنته الشابة الجميلة رحمة , أما ابنه الشاب راضي فهو الضوء الساحر , الذي يسكن روحه ووعيه وأعماقه , حاولت زوجته كثيرا أن تدفعه لبيع الأرض هربا من العذاب والغياب وصعوبات الحصول على الأسمدة وماء الري , لكنه ظل قويا ينتظر أحلام المستقبل القادم . 

كانت رحمة نموذجا للأنثى القوية المشاغبة , خرجت من أسر الاستلاب والاختزال , وأدركت جيدا أنها تمتلك حضورها الإنساني المكتمل , فهي ليست مجرد أنثي , رفضت أن تتزوج وقررت استكمال تعليمها , وكان أبوها مقتنعا برؤاها وأفكارها , أما صابحة صديقتها الجميلة فقد أخبرتها أنها تعيش قصة حب عارم مع راضي , الذي لم تلتق به أبدا , لكنها تراه الفارس والحلم والوجود , الحنان والنبض والروح , والأمنية الساحرة التي تنتظرها . 

لم يكن راضي شابا عاديا , في عينيه رسائل وفي قلبه دقات نابضة , كان يحمل هموم أهل البلد , أدرك جيدا معنى التسلط والديكتاتورية والاستبداد , أراد أن يصلح المسارات , وأن ينشر الوعي والنور في عقول المعذبين , كان العمدة مؤرقا بوجوده , قبض على الفلاحين وسألهم عنه طويلا , أخبروه أنه يحدثهم عن الحرية والعدالة  والكرامة والديمقراطية , عن حقوقهم في حياة أفضل , كان رجلا شهما قويا , يمتلك القدرة على المواجهة , آمن بالناس في بلاده , وآمنوا هم أيضا بصدق رؤاه , علمهم أن البلد يجب أن تمنح الحياة لكل ناسها , وأن الفقر جريمة يجب القضاء عليها , ليشعر الإنسان بوجوده , بمعنى الوطن وقدسية الحياة , وفي هذا السياق ظل العمدة ورجاله يمارسون أقصى درجات التسلط على راضي وأسرته , هدد الأب وأمره أن يواجه ابنه , وحين وقف الأب مع جموع الفلاحين امتلك اليقين العارم بكل رؤى الشاب الحالم بالحياة , وتفتحت أمامه مسارات الوعي بضرورات التغيير .

يتخذ الصراع مسارا ناريا مقلقا , تمتد دلالاته الضمنية ليلمس المتلقي جماليات الاشتباك الفعلي مع إيقاعات الثورة , الأفكار الحية تخترق الأعماق , ويؤمن الفلاحون أن الحرية تؤخذ بالقوة , وأن الواقع لن يتغير إلا بأيدي الناس , وفي هذا السياق تتضح ملامح التركيبة التراتبية للمجتمع الأبوي المتسلط , الطرح الدرامي الشاهق يواجهنا بمؤشرات السقوط الإنساني الآثم للعمدة , الذي دمر وجود راجية , كانت في الماضي القريب شابة فاتنة أخاذة الجمال , خدعها بدفء الليالي ووقعت في غرامه , أخبرته أنها حامل فطردها  , وزوجها لفلاح فقير ,  مات حين عرف أسرار حكايتها , عذبتها الأيام والليالي وفقدت الروح والمعنى والرغبة والجسد , وهي الآن تقرأ الكف للناس لتدفعهم إلى أوهام التغييب .

تدخل رحمة دائرة الصراع , مؤامرات السلطة تبعث وجودا دمويا عنيفا مفزعا , الجرائم ترسم مسارات السقوط , والحضور النسائي الخلاب لرحمة وصابحة يخرج عن أسر السائد والمألوف , وينطلق إلى آفاق مغايرة , النهايات تقترب وسقوط العمدة ورجاله أصبح ضرورة حتمية , سيمفونية الثورة تستدعي أحلام الحرية , والشاب الثائر يصبح في قلب المشهد المهيب , الجموع تتوحد والأصوات الهادرة تهتف باسم راضي , فقد أرادوه زعيما قديسا , يحقق الوعي والوعد والأحلام . 

أخيرا يبقى أن سيمفونية القهر لمؤلفها المتميز هشام بهاء الدين , جاءت كمواجهة شرسة مع قسوة الوجود ودعارة الفكر ومراوغات التاريخ , فهي الوصل والبوح والجموح والمساءلة , وهي الوشم الناري على ذاكرة الوعي , كما أنها الحالة الجمالية الثائرة , التي فتحت المسارات أمام وهج الحضور وسحر الاختيار . 

د . وفاء كمالو


ليست هناك تعليقات: